الجمعة، 17 ديسمبر 2010

مصارحة الذات (( الجزء الثاني ))

ومن الأساليب التي نستخدمها للتهرب من مواجهة النفس ومصارحتها:

أولا: أسلوب الإسقاط:

وعندما يسلك الشاب سلوكاً غير مستقيم فيواجه بالمناصحة يحتج بأن والده لم يحسن تربيته، أو أنه نشأ في بيت غير محافظ، وحين ترى من شاب مستقيم صالحٍ خيراً وترى فيه عيباً فتناقشه فيه فماذا سيقول لك ؟ سيقول لك إني تربيت مع مجموعة غير جادة، إني كنت مع رفقة كانوا غير حريصين على العلم ولم يحرصوني حتى مضت زهرة عمري وريعان شبابي ولم أستفد، والسبب هو فلان الذي يتحمل المسؤلية فهو الذي رباني، السبب هو استاذي، السبب هو فلان أو فلان من الناس.
إنه يجيد أن يحمل المسؤلية لأي شخص كان ولو لم يكن له علاقة بالأمر من قريب أو بعيد.
في غزوة بني قريظة حين حكَّم فيهم صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ رضي الله عنه فحكم فيهم بأن تقتل مقاتلهم وأن تسبى ذراريهم، كان كل من بلغ الحلم قتل ومع ذلك كان هذا الشاب صغير السن ربما يبلغ الرابعة عشر أو الثالثة عشر أو أكثر أو دون ذلك وقد عاش في بيت يهود من أب يهودي وأم يهودية، وعاش في وسط أحياء اليهود يرضع الحقد على هذا الدين، يسمع من والده ومن عمه ومن أقاربه ذم هذا الرجل وأنه كذاب وغير صادق، ومع ذلك فهل قتل ظلماً ؟
لم يقتل ظلماً فهذا حكم الله من فوق سبع سموات وسيلقى الله عز وجل ويحاسبه، فإن كان أحداٌ يُعْذَر بسوء التربية فسيعذر هؤلاء، فهم أولى بالعذر من غيرهم ممن عاش في بيئة مسلمة، يسمع الكلمة صباح مساء، فلماذا نتهرب من المسئولية ونحملها الآخرين ونسقط تبعاتنا على غيرنا؟

ثانياً أسلوب التبرير:

أحياناً لانرى شخصاً بعينه يمكن أن نحمله المسؤولية، لكن ثمة أعذار كانت هي السبب وراء وقوعنا في ذلك؛ ففلان الذي وقع في المعصيية والانحراف يرى أنه مسؤول عن نفسه ويرى أن والده أو قريبه أو مربيه لا يتحمل المسؤولية ولكن من دجه أخرى يرى أنه عاش في عصر بدت أمامه فتنٌ لا يستطيع دفعها، يرى أنه عاش في مرحلة أو فترة لم يستطع فيها أن ينتصر معها على تلك الفتن التي وجهته، والآخر الذي يمتنع عن مجالٍ من مجالات الدعوة يفترض أن هناك مفاسد يخشى أن تترتب على عمله، ويفتعل أعذاراً وأوهاماً يرى أنه معذورٌ فيها عن قعوده وتخليه، والعذر الأول والأخير لو كان صريحاً وصادقاً مع نفسه هو الكسل وليس غير الكسل.

ثالثاً: اجتناب التفكير في المشكلة:

 حين يفشل الفرد في الإسقاط ويفشل في التبرير فقد يسلك أسلوباً ثالثاً فيتهرب من التفكير في المشكلة، ويسعى لأن يشغل نفسه بالتقكير في أي أمر آخر غير مشكلته هذه، فهو لايطيق أن يتحمل تأنيب النفس ولوم الضمير.

رابعا: عقدة البحث عن الحل والعلاج:

حين يفشل المرء في ذلك كله يعمد إلى أسلوب يتصور من خلاله أنه يبحث عن الحل والعلاج وهو يزيد الأمر تعقيداً، فهناك من يقصر في طاعة من الطاعات أو يقع في معصية من المعاصي ويفشل في جهاد نفسه واستنقاذها فيعمد بعد ذلك للبحث عن العلاج وعبارته التي يرددها: أنا شاب أشكو من كذا وكذا فما الحل؟ هذه العبارة كثيراً ما نراها ضمن أسلئة المحاضرات، أو نقرأها في زاوية الفتاوى أو المشكلات التي تعرض في الصحف، أو في رسالة يحملها البريد.
إن هذا لا يعني الاعتراض على السؤال أو طرح المشكلات، لكن الواقع أوسع من ذلك، إنك ترى هذا الشاب يطرح هذا السؤال في كل مناسبة، ويلقيه في أكثر من لقاء، ويبقى مع ذلك في تطلع إلى الحل، يبقى يثير السؤال نفسه ويطرحه، ولهذا ترى أن السؤال الذي يطرح في هذا اللقاء هو السؤال الذي يطرح في لقاء الغد وربما من الشخص نفسه، وربما بنفس اللغه.
ومكمن الداء هنا انصراف الشاب عن الحل الحقيقي إلى البحث عما وراء ذلك، إن المعصية طريقها واضح لاخفاء فيه، وما نهى الله عز وجل الإنسان إلا عما يطيق تركه، والطاعة طريها لا يختلف عليه اثنان، وما أمر الله عز وجل الإنسان إلا بما يطيق، فلا يزيغ عن طريق الله عز وجل إلا هالك }لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها{ ومع تكرار السؤال والإلحاح فيه دون جدوى يغيب عن الشاب أن الحل بيده، وأن العلاج ببساطة أن يترك ماكان يفعل أو يفعل ما كان يترك، وأن يجاهد نفسه على ذلك، وحين يفشل فلا يعني هذا أن هناك عشرون خطوة نسي هو الخطوة العشرين وهي العقدة والسبب في عدم الوصول إلى الحل، إن مكمن الداء وأساس المشكله هو ضعف الإيمان وضعف العزيمة والإرادة.
ولنعرض أيها الإخوة نماذج من الأسئلة التي كثيراً ما تصلنا حتى لا نحلق في الخيال: سؤال وصلني في احد الدروس يقول : إنني أعق والدي فما الحل ؟ إنني لا أملك أن أقول لهذا الشاب إلا: الحل أن لا تعق والديك، هل هناك حل أخر غير هذا الحل ؟ سؤال آخر يتكرر أيضاً " إنني أسمع الغناء وأريد أن أتخلص منه فما الحل؟ إنني شاب لي صحبة فاسدة وأريد أن أتخلى عنهم فكيف ذلك؟ لا استيقظ لصلاة الفجر فما الوسيلة لحل هذه المشكلة؟ مشكلتي أني أقع في العادة السرية وأجاهد نفسي لكني لا أستطيع تركها فما الحل؟ إنها قائمة كبيرة من الأسئلة تتكرر كثيراً، ويجاب عن السؤال ثم ترى السائل نفسه يعرض السؤال مرة أخرى، وبنفس اللغة وربما على الشخص نفسه، وهكذا يبقى في حلقة مفرغة.
لا اعتراض على أن يطرح الشاب مشكلاته، ولا نرفض أن يسأل أو يبحث عن الحل، ولا نعترض على المتحدث حين يجيب وحين يذكر خطوات للحل، لكننا نخشى أن تتحول القضية إلى عقدة يتصور الشاب بعد ذلك أنه معذور لأنه لم يصل إلى الآن إلى الحل.
زارني شاب جلس معي قرابة الساعة يشكو لي مشكلته، ثم قال :لقد ذهبت إلى فلان من طلبة العلم سبع مرات، وفلان كذا وكذا مرة، وفلان.. فقلت له : هل أنت مقتنع بعد ذلك مما عرضت لك أنه هو الحل؟ قال : لا، قلت أتريد حلاً لم تأت به الشريعة الإسلامية؟! لست أدري، المشكلة هي منك أنت وحدك، المشكلة أنك إنسان ضعيف الشخصية، ضعيف الإيمان، ضعيف العزيمة والإرادة هذه المشكلة أولاً وأخيراً.. فلا داعي أن تضيع أوقات الناس، وتشغلهم بهذا السؤال، إذا لم تستطع فكن صريحاً وواقعياً وأعلنها في نفسك إنني أنا ضعيف، وجاهد نفسك ولا داعي لإضاعة الوقت لأنك حين تبحث عن الحلول وحين تكثر السؤال عن الحل فإن هذا يهوَّن عليك بشاعة الخطأ الذي وقعت فيه، ويخفف عليك اللوم من نفسك وتأنيب الضمير لأنك تتصور أن هناك حلاً لا يملكه إلا رجل رأيته في المنام ولم تره في اليقظة، فأنت تسأل في كل مناسبة وكل لقاء علك أن تجد من رأيته في المنام وقد ترى ملك المرت فبل أن تجد ذلك الرجل.
لسنا نعترض على السؤال وعلى تناول المشكلات وعلى الحديث عنها، لكن حين تناولها يجب أن تناولها باقتصاد، ويجب أن تتصور مكمن الداء وأساس المشكلة، وحينما نجيب عن السؤال وعن المشكلة فيجب أن نوقف السائل على أن الحل بيده، وأن الحل ليس هذه الخطوات المحددة التي أعطيناه إياها.

خامسا: الورع البارد

في مقابل تلك الحجج السابقة هناك من يدرك تبعات العمل الجاد وتكاليفه على النفس، فلا يطيق الصبر ولا يستطيع أن يصارح نفسه بالكسل ويفاتحها بالخمول، فيقول حينئذ بأنه يتورع عن تحمل المسؤولية ويخاف من الأمانة، وكم نرى من نماذج ممن يملك القدرة والعلم والوقت فيضيع عمره سدى وأوقاته هداراًَ، وحين يدعى إلى العمل والمشاركة يعتذر بأنه ليس أهلا لذلك، وأن الأمانة أكبر والمسؤولية أشد مع أنه يعلم أن كثيراً ممن هم في الميدان من هؤلاء دونه بمراحل.
وبعضهم يسلك مسلكاً آخراً؛ فينتقد العاملين ويتحدث عن زلاتهم وأخطائهم، ويرى أن هذا الميدان من العمل فيه أخطاء عدة، والميدان الآخر فيه من الأخطاء كذا وكذا، ومن يحاضرون يخطؤن كذا، ومن يتصدرون حلق القرآن يخطؤن في كذا وكذا، ومن يربون الشباب يخطؤن في كذا وكذا، فيعطيك قائمة من الأخطاء للناس جميعاً.
وكثير مما يقال حول هذه الأخطاء والزلات قد لايكون نتاج اقتناع تام، بل هو صدر عن حيلة نفسية ومن رجل كسول لا يستطيع العمل ولا يطيق الصبر على تحمل أعباء الطريق ومشقته، فحينئذ لا مناص له من خيارين لا ثالث لهما، الخيار الأول أن يقول : إن أولئك عاملون جادون ناصحون، صادقون، وأنا رجل كسول فاشل، وهذا خيار صعب على النفس أن تقوله، فحينئذ يلجأ إلى الخيار الثاني فهو لا يطيق أن يتحمل ولا يطيق أن يضحي وأن يتخلى عن تلك الأوقات التي يقضيها مع أقرانه في الانبساط والأحاديث الجانبية، ويسافر هنا وهناك حيثما أراد فلا يطيق ذلك فحينئذ يعمد إلى حيلة نفسية فينتقد العاملين ويتحدث عن أخطائهم.
إنه يوهم نفسه بكثرة الأخطاء من العاملين حتى لا يرى الحقيقة حتى لا يرى أنه مقصر ومهمل ويصارح نفسه بالحقيقة المرة.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق