وقفة عاجلة :-
سنقف قليلاً حو ل المعنى اللغوي للمصارحة قبل أن نبدأ في الموضوع.
يقول الأزهري : صرح الشيئ وصرحه إذا بينه وأظهره. ويقال : صرح فلان ما في نفسه تصريحاً أي أبداه.. والتصريح خلاف التعرض. ومن أمثال العرب: صرحت بجدان وجلدان إذا أبدى الرجل أقصى ما يريده.
وفي اللسان : انصرح الحق أي بان، وكذبٌ صرحان أي خالص. ولقيته مصارحةً ومقارحةً وصراحاًً وكفاحاً بمعنى واحد إذا لقيته مواجة. وصرح فلان بما في نفسه وصار أبداه وأظهره.
أي أن هذا المعنى الذي نستعمله صحيحاً لغةً؛ وذلك أن بعض الكلمات قد تستخدم في غير موضعها فمن ثم كان لابد من تحقيق مثل هذا المعنى وصحة استعماله لغةً.
أحبتي : الصدق خلقٌ محمود ومطلوب شرعاً، قال عز وجل }يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين{ وعد الله سبحانه وتعالى الصدق ضمن صفات عباد الله الصالحين }إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات..{ إلى آخر الآية وقال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المشهور" إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار "
وفي الحديث الآخر " الصدق مع البر وهما في الجنة، والكذب مع الفجور وهما في النار ".
وفي المقابل فالكذب خصلة شنيعة وصفة مرذوله يحق على صاحبه لعنة الله }ألا لعنة الله على الكاذبين{ وهو سلم وطريق إلى الفجور الذي يؤدي إلى النار "إن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ".
وفي الحديث الآخر "الكذب مع الفجور وهما في النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً " وحينما يكون المؤمن جباناً أو بخيلاً فإنه لا يمكن أن يكون كذاباً.
وكما أن الصدق صفة مطلوبة شرعاً يستحق صاحبها الثناء، و الكذب مذموم في الشرع مغمرس صاحبة بصفة من صفات المنافقين حتى يدعها، فهما كذلك في الخلق المستقيم والفطرة السليمة، فمازال الناس برهم وفاجرهم يدركون أن هناك تناسب بين الكذب وبين السب والانتقاص، لذا لايطيق أحدهم بأن يوصف بأنه كذاب، وغاية السب والشتم لأي امرئ أن تتهمه بالكذب وحتى أكذب الناس الذي يتخذ الكذب حرفة ويأخذ على ذلك أجراً لا يرضى بأن يوصف بالكذب.
ولئن كانت هذه شناعة الكذب على الناس وممارسته عليهم بهذا القدر من السوء والرفض فما بالكم بمن يمارس الكذب على نفسه، إنها قضية أكثر سوءاً وأكبر خطأً واستخفافاً بالنفس.
إننا أحياناً نمارس الكذب على أنفسنا أفراداً وجماعات، وبصورة تفرض سحباً من الأوهام المفتعلة، وتضع سياجاً يحول دون الرؤية الواضحة الصادقة، فكم نفتعل العمى والعشى ونحن نستطيع أن نبصر الحقيقة بأم أعيننا، ومن واجبنا أن نتسائل من المستفيد والخاسر من حجب الحقائق وافتعال الضبابية حول الواقع؟.
إن مرحلة العواطف والحماسة مرحلة يجب أن نتجاوزها ومرحلة ستر العيوب وإخفاء الأخطاء سلوك يجب أن نتخلى عنه.
ومن ثم كان لابد من دعوة للمصارحة فهي دعوة للمصارحة على المستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي.
دعوة للمصارحة على المستوى الفردي:
من سجية النفس أنها ترهب الخطأ وتهاب الانحراف وترفض تأنيب الضمير واللوم الداخلي، وتلك صفة يكفي في استحقاقها كون المرء إنساناً، فالناس مؤمنهم وكافرهم برهم وفاجرهم حين يقعون في الخطأ ويواجهون سياطاً من اللوم والعتاب من أنفسهم -أياً كان هذا الخطأ ومهما كان مصدره ومهما كانت مقاييسه وموازينه- فهم يسعون إلى التهرب من تحميل أنفسهم مسؤولية أخطائهم وتبعتها.
وحين تثقل على النفس سيئة الخطأ وتنوء بحمل نتائج التقصير فإن الإنسان حينئذ يمارس حيلاً لا شعورية مع نفسه لينفي عنها الخطأ أو يخفف تبعاته، كل ذلك يعمله مع نفسه حتى يسلم من اللوم والعتاب الظاهري، لكن هذه الحيل تسهم في إخفاء الحقيقة وفي تكوين ركام من الأوهام تحجب عنه الرؤية الصادقة..
فلئن كان الكذب فجوراً و شناعة حينما يمارسه المرء مع الأخرين، فهو كذلك حين يمارس مع نفسه، بل يزيد مع ذلك استغفالاً لنفسه وسلوك طريق النعامة التي تخفي رأسها وتظن أن الفريسة لا تراها.
إن الطالب الذي يفشل في الامتحان كان جاداً وقد بذل الجهد ولكن الأستاذ كان فاشلاً؛ فالأستاذ لا يجيد شرح المادة، أو كانت درجات أعمال السنة هي السبب، أو أن أسئلة الامتحان كانت مفاجئة وغامضة، أو كان التصحيح غير دقيق، أو كانت نفسيته يوم الامتحان ليست مستقرة فم يوفق للإجابة، وهكذا يفتعل هذا الطالب ألواناً من الحجج والمعاذير يقنع نفسه ويخدعها لكي لا يتحمل المسؤلية، أما لو كان صادقاً مع نفسه لاعترف بتحمل المسؤلية فهو يعرف أستاذه طوال العام فإذا كان الأستاذ على سبيل المثال لا يجيد شرح المادة فقد كان بإمكان الطالب أن يعطي هذه المادة جهداً مضاعفاً حتى يعوض القصور الذي يأتتي من أستاذه، وليست هذه أول مرة يدخل فيها قاعة الامتحان؛ فهو يتوقع أن تأتيه الأسئلة على أي صورة وعلى أي احتمال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق